أحمد محفوظ عمر ليس قاصاً مشاغباً ولا يميل إلى التهييج المصطنع والتهويل للأحداث العابرة، ولا يزرع الرعب والجنون ولا الخيال الجامح في قصصه كما يصنع الكثيرون أمثال ادغار آلن بو، صاحب الإثارة والقصص البوليسية والمتحدث الشهير عن الحياة والرعب والموت. فالقصة عند المبدع أحمد محفوظ
«معاناة مرهقة يسفح في سبيلها كثيراً من العرق والجهــد»، فهي تنفرد باقتناص اللحظة المأزومة – حسب تعبير حنا مينه – فاللحظة المأزومة في قصـة
«العيون الملطخة بالطين»، هي موت طفلته البريئة، حيث استطاع أن ينقل المشاعر والأحاسيس الإنسانية الحية في هذه اللحظة ويترجمها في صور وتعابير فنية مثيرة، لا يستطيع القيام بذلك إلا المهرة من المبدعين الذين يجيدون النفاذ إلى العالم الداخلي للإنسان، ويهزون عروش القلوب بذكائهم وحنكتهم وقدرتهم على التبصر والتصوير والملاحظة والتحليل النفسي والسيكولوجي والخيال الخصــب المتناسل من رحــم البـيـئة المكانيـــة.
لماذا تتلطّـخ أعيننـا بالطّيــــن؟
هل قـدر الموتى أن تتلطـخ عيونهم بالطين؟ هــذا هو الاستفسار المحيـــر والمدهش والمستـفـز، الذي تتكئ عليه القصة الواقعية، فعندما رقدت الطفلة رقدتها الأبدية وانتـقلـت روحها إلى باريها، استطاع يراع المبدع أحمد محفوظ، أن يبسـط صورة رهيفة ورائعة للمشهـد التراجيدي، واستطاع بحــدس الفنان أن يغوص في أقاصــي النفس البشرية، ويصور بدقة متناهية «حــدث الموت» والحمولة القاسية غير المرتقبة التي أضافت جرعة من المعاناة والكمــد الغويرإلى نـفـس ووجدان القاص، وقلبت الطاولة رأساً على عقــب واستـفــزت المشاعر الإنسانية الكســيرة، فعندما امتــدت اليــــد الغليظة للقبــار لتلطيخ « الوجه الطفولي البريء .. بالطين بهمجيــة مقــززة» في بطــن القبــــر.
إن القاص أحمد محفوظ عمر كاتب لا يستهويه العبث واللهو بالكلمات، فهو يطلق أفكاره بطريقة منتظمة ومتناسقة في الهدف المرتقب، وفي بناء قصصي حصيــف تفوح منه رائحة الجــودة والإبداع القصصي، ولا يصنع أبطاله من ورق وأشباح وإنما ينتقيهم من البيئة المكانية الحية النابضة بالعطاء والنماء، «فالحياة كوميديا لمن يفكرون..وتراجيديا لمن يشعرون»، حسب قول دانييلجولمان، نعــــم تراجيديا لمن يشعرون، فالقصة التي بين أيدينا ثــرية بمشهــد تراجيــدي حافل بالدهشة والحــزن، حيث يقـدم القاص صورة نابضة لعذاب أليــم وللقبضة الغليظة التي لطـخت وجـــه الطفلة الميتــة بالطــين.. لقــد غــذى القاص القصــة بوجبة شهية من اللقطات الرائعة والسريعة للحــدث وقــدم كســرا بهيــة من الوقائع الحيــة لموت أليم يقــع كالصخرة على أبوي الطفــلة وأهـلها، وجعـلهم يلعـقون المرارات، ويموتون كمــداً وتـتقــطــع أنيــاط قـلوبـهم مــن هــول الحـــــــدث.
إن الذكاء العاطفـــي للقاص المكلوم، لم يجعلـه يقرأ أحـاسيسـه ومشاعره فحســب، بل مكنــه هــذا الذكاء من قراءة مشاعر الآخرين بقوة الملاحظة ودقة التعبير، ووصــف حـاذق للأحاســيس والأمزجـة والسلوكات المنفعلة والمضطربة، حيث تمكنت عـدسته الذكية وحدسه المرهف أن يصور مشهداً نادراً في اللحظة المأزومة للبيئة المكانية والفضاء العام والجموع المحتشدة والغبار، وزوجته، حيث يشير إلى أنه: «لم يكن يعرف ـ أن لزوجته صوتاً مهـولاً..تكمن في نبراته أحزان منفردة، تهــدر كشـــلال دافق من قمــة المأساة الخالدة. لقــد انتفت البحــة التي تميزت بها من قبل وهي تلبد بين ذراعيه تتمسح بصــدره وهو يعب كأس اللذة ويتروح أنفاسها المألوفة، ولكنـه ارتاع في الوداع الأخير، حيث اندفعت تصرخ بحرقة لاسعـة وشعرها منكوش، وعيناها زائغتان، وثمــة أيــد لرجال عـددين تمسك بها وتمنعها، وقـد برز أحــد نهديها عارياً من جانب في الثوب المشدود، وهو يرقب المشهــد بذهول،وكتلتان من الأثقال تعوقان قـدميه عن الحركة».
ولا ينسـى القاص في أقصى حالات المرارة والحزن ، أن يربط حزنه بأحزان الأمة، ويتـذكر مصير الأمة العربية المكلومة في لمحات تعبيرية مكثفة. وفي السياق نفسه ، هناك ملاحظة لا بد من الجهر بها، هو أن العمل مشبع بالرمزية اللذيـذة، يعطي القارئ إمكانية لقراءة القصة على غير وجــه، وتعطيه فسحـة مريحة للنظــر إلى حـدود أرنبة الأنف، وفي الضفة الأخرى يحفزه النص أن يرنو بعينيه إلى ما وراء الأكمـة، ويشعل الاستفسارات:
«الأعـداء الذين نجحوا في الإجهاز على العنق النحيل..المأساة..الهــدنة مع العــدو..لماذا تعادينا أمريـكا ؟..ولماذا تتلطخ عيوننا بالطيــــن؟».
فقصــة «العيون الملطخة بالطين»، مترعة بالتكنيك القصصي الحديث، وبالرمزية وبضروب من الصور الفنية الممتعة والخيال الخصب والقدرة الرائعة على التصوير واللغة الأنيقة التي تخرج عن المألوف والنمطية الرتيبة.
ملاحظة
أحمد محفوظ عمر قاص يمني له علو كعب في القصة القصيرة اليمنية من مواليد عدن 1936 م، وله أعمال قصصية مشهورة:
1 - الإنذار الممزّق.
2 - الأجراس الصّامتة.
3 - يا أهل هذا الجبل.
4 - الناب الأزرق.